فمثلاً إن قلنا أن العناية بالقرآن -بكلام الله سبحانه وتعالى- من ناحية حفظه أو من ناحية تلاوته أو من ناحية دراسة معانيه؛ فأنت تجد أن المذكّرين في هذا الأمر بفضل الله عز وجل كُثر من سائر أصناف المسلمين والفرق والطوائف، فدائماً يحصل التذكير بالقرآن وتلاوته، وتنشأ الحلق من كافة الدول الإسلامية من كل مكان، لكن حين تأتي مثلاً إلى بعض الأحاديث مثلاً تأتي إلى حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه فيما يتعلق بالقرآن وهو حديث الصحيحين الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، هذا الحديث قد يصعب أن يكون مسلم عنده درجة من التدين يكون لم يسمعه أو يقرأه أو يمر عليه، فخدمة القرآن من هذه النواحي من ناحية التجويد من ناحية مثل هذه الأشياء أمر مشترك يشترك فيه المسلمون ويتواطئون عليه على اختلاف فرقهم وعلى اختلاف مذاهبهم، بل حتى الرافضة اليوم صار عندهم شيء لم يكن معهوداً في أسلافهم من العناية بالقرآن
لكن حين نأتي لبعض الأحاديث في القرآن نفسه؛ مثلاً نأتي ببعض الأحاديث في القرآن مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، أو حديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا القرآن وابتغوا به ما عند الله؛ فسيأتي أقوام يقرؤون القرآن ويبتغون به الدنيا، لما نأتي مثلاً لحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها نأتي لحديث يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: هلاك أمتي في الكتاب -يعني في القرآن-، قالوا: وما الكتاب؟ قال: يقرؤون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله
هذه مثلاً أربعة أحاديث تحضرني الآن صريحة في ذكر القرآن، وكلها أحاديث صحيحة، الحديث الأول: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، الحديث الثاني: "اقرؤوا القرآن وابتغوا به ما عند الله فسيأتي أقوام يقرؤون القرآن يبتغون به الدنيا"، الحديث الثالث: أكثر منافقي أمتي قراؤها، أو ما معناه، الحديث الرابع: "هلاك أمتي في الكتاب" ثم فسرها صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن يتأولونه على غير ما أنزل الله"
هذا من العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن، هل تجد لهذه الأحاديث ذكراً أو تجد لها شرحاً أو تجد لها إشادةً أو تجد عليها تركيزاً عند أحد من الطوائف غير أهل السنة؟ لا تجد إلا أهل السنة هم الذين يأتون بهذه الأحاديث وهم الذين يشرحونها وهم الذين يبينون معانيها، لماذا؟ لأن الانتفاع بالقرآن حق الانتفاع لا يمكن فقط بحفظ ألفاظها وتلاوتها ثم تزكية النفوس و القلوب وتذكر الآخرة فقط، القرآن فيه معاني، والقرآن إنما انزل من أجل معانيه، ولذلك منع أهل العلم من تعليق سور وآيات القرآن على الحيطان لتزيينها، قالوا إنك إذا علقت لوحةً فيها آيات قرآنية وجعلتها على الحائط أن هذا ممنوع، لماذا ممنوع؟ قال أهل العلم: لأن القرآن لم ينزل لتزين به الحيطان
فالمقصود من القرآن ألفاظه ومعانيه، ومعانيه مقصودة أيضاً، إذن فكيف ينتفع المسلم بالقرآن إن لم يعرف معانيه؟ لا يمكن أن ينتفع
طيب هل يمكن أن يعرف معاني القرآن دون أن يكون متبعا للصحابة والتابعين والسنة؟ أيضاً الجواب لا، إذا لم يكن على السنة لم ينتفع بمعاني القرآن حقا، لماذا؟ لأنه سيفسر القرآن ويتأوله على غير ما انزل الله كما حذر الرسول صلى الله عليه وآله سلم
فتبين أن السنة ومعرفتها والتفقه فيها والتمسك بها بعد معرفتها أن هذا أمر مهم للانتفاع بالدين، ولذلك كان مقياس وميزان ومعيار السلف الصالح يختلف عن معيار الكثير من المسلمين اليوم
فدخل رجل على أبيه وهو من أئمة السنة رحمهم الله تعالى فدخل عليه وهو يبكي فقال: يا بني ما يبكيك؟ قال: مات صاحب لي، فقال له: أمات على السنة؟ قال: نعم، قال: لا تبك عليه، يعني أنه يرجى له ما دام انه قد مات على السنة صادقا، لأن الانتفاع بالقرآن والسنة بطريقة صحيحة لا يمكن أن يتم إلا إذا كان على مذهب أهل السنة ومذهب الصحابة والتابعين، وإلا فإن المسلم يكون عرضة للأهواء والبدع و الضلالات وهذا يبعده عن حقيقة الدين الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكثر علومه وتكثر أعماله ويكثر رواحه ومجيئه وتكثر أقواله لكنها لا تكون مبينة على السنة فيعدم بركتها ويقل منفعتها، أما السنة فهي الطريق المختصر إلى الجنة كما قال شاذ بن يحيى رحمه الله تعالى: "ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار"، ولذلك كانوا يتشددون جداً في أن يذكر مبتدع بخير أو أن يشار إلى مبتدع، حتى قال الإمام فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام"
فأهل السنة يبتدئون من فوق من الأصل لا من جهة الألفاظ، يعني هم يبنون علمهم ودينهم على (قال الله) (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكن ليس فقط على (قال الله) (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لكن بفهم الصحابة والتابعين على السنة، فهم يعتنون بأن يعتصموا بألفاظ القرآن والسنة وأن يفهموا معانيها على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وأنهم يأخذون العلم من فوق من الصحابة، ولذلك يتمسكون بالسنة، فتبتدئ معاركهم ويبتدئ الفرقان بينهم وبين سائر الطوائف الذين لا يبنون دينهم على مثل ما يبنيه عليه أهل السنة، وهنا تبدأ معركة بينهم وبين إخوانهم المسلمين، فيقول لهم المسلمون: لماذا أنتم دائماً لا تشاركوننا فيما نحن فيه من هموم الإسلام وقضاياه؟ فيقول لهم أهل السنة: هموم الإسلام وقضاياه عندنا تبتدئ من السنة، لا تبنى على البدعة وعلى الهوى، فقضيتي الأولى السنة، اتفق معي على السنة ثم ننظر بعد ذلك في الموضوع الذي أنت تريد
وفي الغالب أنه ما من موضوع من الموضوعات إذا رجع فيه إلى السنة إلا ويكون الحكم فيه مختلفاً عما يختاره أهل الأهواء والبدع ودعاتهم وجماعاتهم
فالسنة هي ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث فارقاً بين الحق والباطل وفرق، ومن هنا يعلم حقيقة السنة و أنها تجعل الإنسان أولاً همومه وقضاياه تختلف عن قضايا غيره من المسلمين، لا لأنه يبنيها على غير حق، لا، لأنه يبنيها على الحق، فلا يشارك جمهور الناس فيما يريدونه من ترتيب أمور الحياة والدين بعيداً عن المعيار الصارم الصادق الحق الذي خطه النبي صلى الله عليه وسلم بيمينه خطاً مستقيماً وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلم تتقون"، فإذن الذي يريد أن يقول هذا الخط المستقيم الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم والخطوط الأخرى عن يمينه وشماله يا أخي لا تركز على هذه القضية وعلى هذا الأمر، هذه الخطوط كلها نابعة من الإسلام كلها من تراث أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها فرق إسلامية! وحسبنا اليوم مع هجمة الكفار علينا وتغير الزمان أن نرضى بأقل شرط في الدين وهو أن يقول المسلم (لا إله إلا الله)، فنقول له: معنى ذلك أنك تريد منا أن نترك ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم وفهمه الصحابة والتابعين وجرى عليه عمل أهل السنة، ونحن لا نستطيع أن نترك هذا الاعتقاد وهذا الدين، بل يجب علينا أن نعتقد هذا الاعتقاد وأن نتمسك بهذا الدين، بل يجب علينا أن نحكم على ما عندك بناء على هذا الأمر
ومن أدرك هذه المعاني في السنة وما توجبه من الافتراق عن البدع والأهواء وما توجبه في صدر صاحبها من الاهتمام ومن التذكير ومن ترتيب عقله ومداركه ونظره على هذا الأصل في الشريعة من أدرك هذا المعنى وتعقله ثم وفقه الله جل وعلا وشرح صدره للإيمان واليقين به فإنه سيذوق طعم حلاوة الإيمان، وسيدرك المعنى العميق الذي أدركه أئمة السنة في زمانهم حين كانت السنة وأهلها أمرهم ظاهرين، وكانت حلق العلم عامرة، وكان العلماء ألوف وكثر، وكان الأصل في المجتمع المسلم وفرة السنة، ومع هذا فإنك تجد أن أئمة السنة الكبار من لدن التابعين فمن بعدهم كلهم يقولون كلمة تتعجب منها:
فيقول مثلاً الحسن البصري رحمه الله: يا أهل السنة ترفقوا فإنكم من أقل الناس
ويقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء
ويقول أيضا الإمام يونس بن عبيد رحمه الله تعالى: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها
وقال سفيان الثوري رحمه الله أيضا: إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالغرب فابعث إليهما السلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة
طيب في تلك الأزمنة - زمن سفيان الثوري، زمن يونس بن عبيد، زمن الحسن البصري- ألم يكن أهل العلم كثيرون ألم تكن السنة وأعلامها ظاهرة؟ فكيف يقولون هذا الكلام؟ يقولون هذا الكلام لأنهم استشعروا معنى عميق دلت عليه الأدلة وقاله الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصف السنة بالغربة؛ فقال: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"
فأدركوا أن معنى التمسك بالسنة يجعل الإنسان له همومه وله أفكاره وله طريقه الذي قد لا يوافقه عليه الكثير من الناس، فمعنى الغربة أصيل وعميق في السنة، لماذا؟ لأنه يبنى على الدين الحق بعيداً عن الأهواء والشهوات و الشبهات، فهو مبني على دين وتدين صادق، ولذلك فإن الناس يعسر عليهم أن يبنوا دينهم على السنة لما توجبه من عداء أهل البدع ومن جعل القضايا تتجه لعداء الفرق الهالكة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
والمقصود أن العبرة هي ليست فقط بأن يوفق الإنسان إلى التدين، وليست العبرة في أن يستزيد من شيء من الإيمان والحسنات والأعمال الصالحة، لا، قبل كل هذا لابد أن يبني أمره على السنة، ثم بعد ذلك يزيد أو ينقص من عمل فهذا أمر له أحكامه كما قال صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا
ففي مجال العمل يأخذ الإنسان من العمل ما يطيق، كما قال صلى الله عليه وسلم: عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا
لكن عمل كثير وتلاوة كثيرة ورواح ومجيء وصراخ وعويل وخطب رنانة إلى غير ذلك مما يملأ الكون اليوم ضجيجاً وكلاماً وتبصر طحناً في كل الوسائل ثم مع هذا الطحن الشديد تسمع طحناً ولا تبصر طحيناً! يعني ما ترى نتيجة وثمار صادقة تدل على رجوعهم إلى الحق أو على نصر الله، مما يدل على أن هذه الأعمال التي لم تبن على السنة لن تعطي المسلمين ما يرجونه والثمار التي يبتغونها من نصر الدين الحق، فمثل هذه الحقائق يجب على المسلم صاحب السنة أن يشربها قلبه وأن يستيقنها جلالة
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدورنا للحق الذي أنزل، وأن يمنحنا وإياكم الإيمان الصادق، وأن يوفقنا أن نبني تديننا وديننا على الصدق وعلى السنة
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه
الشيخ أحمد السبيعي حفظه الله تعالى
https://soundcloud.com/annahj/ahmadalsubaiee0005/